في كل مرة يُطرح فيها ملف اللامركزية في الشرق الأوسط، تعود واشنطن إلى الواجهة بصفتها لاعبًا لا يمكن تجاهل موقفه، لكن من دون أن تقدّم إجابة حاسمة. فهل تدعم الولايات المتحدة اللامركزية كنموذج للحكم، أم أنها تتعامل معها بحذر شديد بعد تجارب إقليمية مكلفة؟ التصريحات الأميركية الأخيرة، ولا سيما الصادرة عن مبعوثيها ودوائرها الدبلوماسية، تكشف بوضوح أن واشنطن لا ترى في اللامركزية وصفة جاهزة، بل خيارًا إشكاليًا تحكمه الشروط والسياقات.
خلال الأشهر الماضية، شدد مسؤولون أميركيون، في أكثر من مناسبة إعلامية ودبلوماسية، على أن الولايات المتحدة لا تروّج لنموذج حكم محدد، سواء كان فيدراليًا أو لامركزيًا، في دول تعاني من نزاعات داخلية. هذا الخطاب لا يعكس ترددًا بقدر ما يعكس استخلاصًا لنتائج تجارب سابقة في المنطقة، حيث فُرضت صيغ حكم لامركزية أو شبه فيدرالية دون توافق وطني، فأسهمت في تعميق الانقسامات بدل احتوائها.
من المنظور الأميركي، ترتبط اللامركزية بثلاثة أسئلة مركزية:
هل تحظى بقبول داخلي واسع؟
هل تُنتج مؤسسات قادرة على الحكم؟
وهل تساهم في الاستقرار أم تفتح الباب أمام التفكك؟
الإجابة عن هذه الأسئلة، وفق الخطاب الأميركي، لا يمكن أن تأتي من الخارج. لذلك تكرر واشنطن أن الاستقرار لا يُبنى على نماذج مستوردة، بل على قدرة المجتمعات المحلية على التوصل إلى صيغ حكم تتناسب مع تاريخها وتركيبتها الاجتماعية والسياسية.
في السياق السوري تحديدًا، تعكس تصريحات المبعوث الأميركي إلى سوريا حذرًا واضحًا من الدفع باتجاه الفيدرالية أو اللامركزية السياسية كحل نهائي. فواشنطن، التي تدير وجودًا عسكريًا محدودًا شرق البلاد، تفصل بوضوح بين الملف الأمني وشكل النظام السياسي المستقبلي. دعمها لقوى محلية أو هياكل إدارية مؤقتة لا يعني تبنيها مشروعًا سياسيًا دائمًا، بل يندرج ضمن إدارة الواقع القائم ومنع الفراغ.
في المقابل، تظهر داخل المؤسسات الأميركية نفسها تباينات في المقاربة. فبعض أعضاء الكونغرس ومراكز التفكير يرون في اللامركزية وسيلة لاحتواء التنوع العرقي والديني ومنع عودة الاستبداد المركزي، بينما تحذر دوائر تنفيذية وأمنية من أن اللامركزية غير المنضبطة قد تتحول إلى منصة لصراعات نفوذ، أو إلى خطوة أولى نحو التقسيم الفعلي.
إقليميًا، تأخذ واشنطن في الحسبان حساسية حلفائها، خاصة الدول التي ترى في أي حديث عن اللامركزية تهديدًا لوحدة أراضيها. لذلك تتجنب الإدارة الأميركية استخدام مصطلحات حادة، وتستعيض عنها بلغة أكثر مرونة مثل “الحوكمة المحلية”، “الإدارة المجتمعية”، و“التوافق الوطني”.
إذاً فالموقف الأميركي من اللامركزية ليس دعمًا ولا رفضًا مطلقًا، بل مقاربة حذرة قائمة على التجربة لا التنظير. اللامركزية، من وجهة نظر واشنطن، ليست هدفًا بحد ذاتها، بل أداة قد تنجح في سياق وتفشل في آخر. وما لم تنبع من إرادة داخلية وتوافق وطني حقيقي، فإنها قد تتحول من حل محتمل إلى عبء سياسي جديد.
في عالم ما بعد النزاعات، تبدو الرسالة الأميركية واضحة، ومفادها لا نماذج جاهزة، ولا حلول سريعة، بل مسارات طويلة تُقاس بنتائجها لا بشعاراتها.
سياسي
اللامركزية السورية.. هل تراها واشنطن مخرجًا سياسياً أم مخاطرة مؤجلة؟
66

مقالات ذات صلة

معاون وزير الداخلية يطلع على واقع المتدربين المعادين للخدمة بطرطوس
اطلع معاون وزير الداخلية للشؤون الأمنية اللواء عبد القادر طحّان، برفقة قائد الأمن الداخلي في المحافظة العقيد عبد العال عبد العال، على واقع المتدربين المعادين إلى الخدمة ومستوى جاهزيتهم وانضباطهم في البرامج التدريبية.
0

مجلة "ذي إيكونوميست" تختار سوريا دولة العام 2025
اختارت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية سوريا دولة العام 2025، ضمن تقليدها السنوي الذي يسلّط الضوء على الدولة التي استطاعت تحقيق أكبر قدر من التحسّن خلال العام.
2

الأردن: إلغاء قانون قيصر يحقق تطلعات الشعب السوري
قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأردنية فؤاد المجالي، في بيان اليوم، إنَّ إلغاء قانون قيصر عن سوريا، يحقق تطلعات الشعب السوري ويشكل خطوة مهمة بدعم جهود سوريا في إعادة البناء.
6

بينهم "أبو عمشة".. أبرز المعلومات عن الأفراد المشمولين بالعقوبات البريطانية
فرضت بريطانيا عقوبات على أفراد ومنظمات متورطة في أعمال عنف ضد المدنيين في سوريا.
29

هل يغيّر التصنيف الائتماني السيادي مصير الاقتصاد السوري؟
التصنيف الائتماني السيادي مفتاح ثقة الأسواق الدولية، أصبح التصنيف الائتماني السيادي موضوعًا يتصدّر النقاش الاقتصادي في سوريا
28
